القارة القطبية الشمالية.. مصائب قوم عند قوم فوائد

نشر
آخر تحديث

استمع للمقال
Play

بقلم مؤيد الشيخ حسن، مهندس مختص بالطاقات المتجددة وعلوم الحرارة وحلول تغير المناخ والتنمية المستدامة مقيم في فرنسا.

 

 

يفتح الصراع الحالي الدائر بين روسيا وأوكرانيا ومن خلفها أوروبا وأميركا الباب واسعاً حول أهمية هذه المنطقة، وحول طبيعة المصالح التي تحمل أبعاداً بعيدة المدى، ويأخذ السباق الاقتصادي والتكنولوجي والثروات أهمية بالغة في مجريات هذه المنافسة.
كما تلعب السيطرة على المياه والمعابر المائية في شمالي الكرة الأرضية، دوراً خفياً محورياً في خلفيات الصراع الغربي- الروسي المحموم.


القارة القطبية الشمالية والتي تشكل المياه مساحات واسعة منها، والتي تعرف بالمحيط المتجمد الشمالي أو المحيط الشمالي، تعتبر هذه المياه الأقل مساحة وعمقاً من المحيطات الأخرى، ما دفع الكثير من الاختصاصيين لتسميته البحر الأبيض المتوسط الشمالي.
يبلغ عدد سكان المنطقة حوالي 4 ملايين نسمة، حوالي نصف مليون إنسان من السكان الأصليين المعروفين بالإسكيمو "الإينوي"، إضافة لشعوب أخرى كـ السامي "اللابيون" والباكوت "ساخا"، وسكان أقصى شمال روسا كـ نينيتس وأليوطيون.


بقيت هذه المنطقة في القرون الماضية نائية، لا يصل إليها سوى المغامرين الساعين لاكتشاف منطقة تعتبر من أبرد المناطق على سطح الكرة الأرضية، تكسوها الثلوج في معظم أيام السنة، وفي القرن العشرين مع تطور العلم وأدواته بدأت الدول كأمريكا وفرنسا ودول شمالي أوروبا بتوطين وإنشاء منصات علمية لأغراض البحث العلمي.


ونتيجة للاستكشافات العلمية المتكررة الدءوبة تزايدت أهمية المنطقة نتيجة غناها بالثروات الباطنية وإمكانية استثمارها مستقبلاً.


من يحكم المنطقة؟

 

بقيت المنطقة القطبية الشمالية لقرون غير تابعة لدولة أو نظام سياسي بحد ذاته، وإنما تتبع بشكل غير رسمي للدول التي تطل عليها.


وفي القرن العشرين، وعلى أثر الاكتشافات العلمية التي توقعت وجود ثروات باطنية هائلة، بدأت الحوارات بين الدول الكبرى كفرنسا وأمريكا وكندا وأوروبا، والتي كانت سباقة باكتشاف أهميتها، نتيجة تقدمها التكنولوجي.


تمخضت هذه الحوارات التي استمرت لعشرات السنين، عن ما يعرف بتفاهمات "أوتاوا" "نسبة للعاصمة الكندية أوتاوا" التي احتضنت الاجتماعات"، والتي تم الإعلان عنه عام 1996، في أثناء هذه القمة التاريخية تم إطلاق مجلس المنطقة القطبية الشمالية، والذي يضم في صفوفه الدول الثماني المجاورة للمنطقة القطبية الشمالي وهي روسيا والولايات المتحدة الأميركية، وكندا و الدانمارك النرويج والسويد وفنلندا و أيسلندا.


وشكلت هذه الاتفاقية الأولى من نوعها وقتها، المرجع الأساسي للتعاون الإقليمي في منطقة القطب الشمالي، والتي تهدف لتطوير التعاون العلمي والتقني وحماية البيئية، ومناقشة التنمية الاقتصادية للسكان الأصليين، وتطوير الملاحة البحرية.
ولا يأخذ المجلس على عاتقه حوكمة المنطقة وتقاسهما، وإنما هو عبارة عن مجلس ومنتدى للتعاون، غير معني بشكل مباشر بالقضايا العسكرية والسيادية، وإن كانت موجودة في أذهان الدول الأعضاء.


إلى جانب الدول الثماني، تشكلت في عام 2000 مجموعة مراقبة من الدول غير القطبية، وصل عدد أعضائها اليوم إلى ثلاثة عشر دولة غير قطبية، ككوريا الجنوبية واليابان والصين وسنغافورة والهند، إضافة لـ فرنسا التي تولي المنطقة أهمية كبيرة، والتي كانت سباقة باكتشافاتها العلمية، إذ أنشأت أول قاعدة للبحوث العلمية في عام 1963 في أرخبيل "سفالبارد" شمالي النروج، إضافة لقاعدة جان كوربيل، كما تتشارك مع ألمانيا قاعدة "أوبي فين" والتي مركزها القرية العلمية الدولية " ني أوليسوند".
و يلعب الاتحاد الأوروبي دور الضيف الدائم على المجلس الذي مازال يرفض منحه دور العضو المراقب.

تلتئم الاجتماعات الدورية لمجلس المنطقة القطبية، كل عامين ويشارك فيها وزراء الخارجية للدول الأعضاء، وتنتقل رئاسته كل عامين لدولة عضوه أخرى، وتديرها روسيا للفترة بين الممتدة بين 2021-2023.


هذه الاجتماعات الدورية تأتي حصيلة لمؤتمرات ومنتديات علمية واقتصادية و إستراتيجية ذات صلة بالمنطقة، والتي تخصص الدول المعنية فيها كبار الشخصيات السياسية والتقنية للإشراف على أنشطتها لما تحملها المنطقة من أهمية مستقبلية.

 


ماذا عن الثروات؟

 


تظهر غالبية المسوحات الجيولوجية أن المنطقة القطبية تضم اليوم نحو 25-30% من الاحتياطي العالمي من الغاز، وحوالي 13% من احتياطي النفط، حسب دراسات أجراها مركز الدراسات الجيولوجية الأميركي.


كما تضم في ثناياها معادن قيّمة كالرصاص والفضة والقصدير والفضة والبلاتين والتنجسين والبزموت والأنتيمون والجبس والقصدير والرصاص والفضة، والتي تزيد تقديرات أولية أنّ قيمتها الإجمالية تزيد عن ترليون دولار، كما تحتوي المنطقة على كميات كبيرة من الثروات السمكية ذات القيمة الاقتصادية الكبيرة.


قامت الولايات المتحدة الأميركية عام 1876 بشراء آلاسكا من روسيا، والتي يقع ثلثها الشمالي ضمن المنطقة القطبية، مقابل سبعة ملايين ومائتي ألف دولار، والتي اعتبرت من أهم الصفقات التجارية في تاريخ الولايات المتحدة.


وبعدها قامت الولايات المتحدة باستخراج ذهب تزيد قيمته عن خمسين ضعفاً لقيمة صفقة شراء آلاسكا، كما استخرجت كميات كبيرة من النحاس تزيد عن قيمة الذهب المستخرج.

 


تغير المناخ

 


يتعاظم اليوم الحديث عن تأثيرات تغير المناخ ومخاطره، والذي بدء الحديث عنه بشكل سياسي في خطاب لرئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر عام 1988.


ويلقى هذا الموضوع اهتماماً عالمياً وأوروبياً خاصا،ً خصوصاً من طرف فرنسا وألمانيا ودول شمالي أوروبا، هذا الاهتمام انعكس اهتماماً على المنطقة القطبية الشمالية، والتي تعتبر أكثر المناطق هشاشة وتفاعلاً مع تغيرات المناخ، ما زاد من كمية الأبحاث العلمية الدولية حولها.


وفي العقد المنصرم وصل متوسط درجات الحرارة في القطب الشمالي إلى مستويات غير مسبوقة، ويقدر خبراء يعملون بالتعاون مع مجلس المنطقة القطبية الشمالية، في تقرير حديث صدر في 2021، أن متوسط درجة حرارة سطح المنطقة القطبية الشمالية بين عامي 1971 -2019، قد تخطى ثلاثة أضعاف ارتفاع متوسط الحرارة في باقي مناطق الكرة الأرضية، كما تسبب ارتفاع درجات الحرارة بتقلص حجم الكتلة الجليدية الصيفية المسجلة إلى ثاني أصغر كتلة منذ عام 2012.


وتقدر بحوث علمية أخرى أنه بين الفترة الممتدة بين عامي2002 -2019 ذاب من إجمالي الكتلة الجليدية الكلية القطبية، ما تسبب بازدياد ارتفاع متوسط مستوى المحيطات بـ 1.2 سم، أي ما يعادل تغطية مساحة الولايات المتحدة بمياه بارتفاع نصف متر، وتذهب دراسات أرقام أخرى إلى أن مساحة الكتلة الجليدية القطبية قد تراجعت خلال العقود الماضية بنسبة 35%.

كما أن استمرار ذوبان الكتلة الجليدية في غريلاند بهذه المعدلات، قد يؤدي لاختفائها، الأمر الذي قد يتسبب بارتفاع متوسط سطح البحار بحوالي 7 أمتار حسب التقديرات الأكثر تشاؤماً.


في سياق مشابه تعتبر المنطقة حاضنة طبيعية تضم أكثر من 21 ألف نوع من الحيوانات والنباتات المصنفة، والتي وتعاني من مخاطر تتهدد حياة مئات الأنواع الحية منها، أبرزها الدببة القطبية وأنواع من الفقمات النادرة، إضافة لاختلال دورات حياة الكثير من الأسماك النادرة، الأمر الذي ينعكس على التوازن الحيوي الشامل في تلك المنطقة وعلى كوكبنا برمته.


كما تشير بعض الدراسات إلى الذوبان المتواصل للكتل الجليدية، قد يطلق أنواع من الفيروسات كانت في مرحلة الخمول والتجمد منذ ملايين السنين، ما قد يهدد حياة البشر بفيروسات قد تكون أشد فتكاً من فيروس كورونا.

 


مصائب قوم عند قوم مصائب

 

 

المخاطر البيئية وذوبان الكتل الجليدية في القارة القطبية الشمالي، والتي تلقى اهتماماً واسعاً من أنصار البيئة حول العالم، تشكل مصدر تفاؤل لدى الكثيرين من الجهات الطامعة بثروات المنطقة، هذه التطورات، ستزيد من شدة الصراع عليها بين الدول المتنافسة لاستثمارها.
ففي العقود القليلة الماضية تزايد السباق بين الدول المعنية لتطوير تكنولوجيات خاصة للاستثمار فيها، ومع تطور الصناعات البحرية والنقل البحري والرصد والاستكشاف تمت في السنوات الماضية إعادة قراءة إمكانيات والاستثمار بها، والاتجاه نحو الإسراع فيها مستغلين التغيرات المناخية التي تعصف بها.


فعلى سبيل المثال عند وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب للحكم، منح امتيازات للتنقيب عن النفط والغاز في ألاسكا، أكبر المحميات الأمريكية الطبيعية، سرعان ما قام بإلغائها الرئيس الحالي جو بايدن عند وصوله لسدة الحكم.


و تصر الحكومة الكندية على تجنب تطوير النقل البحري عبر المعبر الشمالي الغربي في المحيط المتجمد الشمالي، تقيداً بالتزاماتها البيئية، رغم وجود ضغوطات عليها في هذا المجال.


بالمقابل تولي الحكومة الروسية الطريق البحري الشمالي أهمية خاصة، كون الدراسات الحديثة تفيد بأنه من المتوقع أن يوفر هذا المعبر تقليص المسافة التي تقطعها السفن المتنقلة بين روتردام الهولندية و يوكوهاما اليابانية بنسبة 40%، مقارنة مع الطريق التقليدي عبر قناة السويس في حال تم استثماره وتطوير بنيته التحتية، ما يوفر تكلفة الشحن ويختصر الزمن.


وكانت روسيا سابقاً قد بدأت عبر شركة غازبروم باستخراج بعض من النفط بشكل تجريبي، معتمدة على كاسحات جليد نووية من نوع أركتيكا مطلية بالمواد البوليميرية لتخفيف الاحتكاك، لكن العمليات لقيت انتقادات واسعة من الخبراء والعلماء وأنصار البيئة، كونها غير صديقة للبيئة، إضافة لعدم وجود وثوقية عالية بمثل هذه الأنواع من المحركات الروسية التي تعمل على الطاقة النووية، والتي قد يؤدي تعطلها في البحر، لكوارث لا يعرف حجمها، إضافة لمساراتها العشوائية التي تتبعها أثناء رحلات الاستكشاف مما يسرع من ذوبان الثلوج، وتزيد من مخاطر تغير المناخ.


وفي سياق مشابه تعمل الصين على تطوير تكنولوجيات خاصة للاستثمار في المنطقة، رغم أنها غير مطلة على المحيط المتجمد الشمالي، إذ قامت سابقاً شركات صينية بتوقيع اتفاقيات مع الحكومة الروسية من أجل إمكانية العمل في المنطقة وتقيدم استشارات تقنية، لتضمن لنفسها مكاناً بين المتنافسين على الثروات.


تقوم اليوم شركات مختصة بتقديم سيناريوهات وحسابات لكميات الجليد المتوقع ذوبانه بعد عام 2030، الأمر الذي يفتح الباب لمسارات وممرات مائية جديدة، يمكن استخدامها كطرق نقل بحري للثروات المستثمرة في المنطقة، دون وجود أي حسابات للآثار البيئة لهذه المشاريع.


ما يضع المثل العربي القائل "مصائب قوم عند قوم فوائد" نتائجه بادية وجلية جليه في القطب الشمالي.

تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي

الأكثر تداولاً

    أخبار ذات صلة

    الأكثر قراءة

    الأكثر تداولاً

      الأكثر قراءة